د.عبدالمجيد العمري
د.عبدالمجيد العمري

الولع بقراءة الروايات الأسباب والدوافع مقاربة شرعية

 من غرائب العصر الحديث أن ترى الروايات أكثر الكتب مبيعا في العالم، وهناك عشرات الجوائز السنوية "المحلية والدولية" التي ترصد لها، منها جائزة نوبل، وشهرة الأدباء غالبا تفوق شهرة السياسيين، والمخترعين !!

رواية "دون كيشوت" طبع منها 500 مليون نسخة، ورواية " حكاية بين مدينتين طبع منها 200 مليون نسخة ورواية " شفرة دافنشي" التي طبع منها ما يزيد من 150 مليون نسخة، وهلم جرا ..وما رواية "أولاد حارتنا" للروائي المصري نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل منا ببعيد. 

لماذا هذا الشغف بهذه الروايات؟  ما الذي يميزها؟ ولماذا عزف الناس عن كتب الدين بشكل عام، والكتب الفكرية، وكتب العلوم؟ هل العالم يعيش خواء روحي ووجد ضالته في هذه الروايات؟ أم أن الروايات فيها من الجمال والعذوبة والخيال ما تجعلها غذاء خاص للعالم المتحضر؟ 

 يضع البعض تفسيرا أن الروايات فيها حركة وخيال، والناس تمل من الحقائق العلمية الثابتة والتعليم التقليدي، ولذا كان القرأن ثلثه قصص، والتعليم بالقصص أداة علمية ناجعة  "لقد كان في قَصَصِهم عِبرةٌ لأولي الألباب"، فالرواية نسيج من خيال الكاتب، ترمز إلى الواقع برموز مقاربة، لذا تستطيبها النفوس.

وأعتقد أن هناك سببين لهذا الولع، أحدهما الهروب من زحمة الحياة، وضيقها، وصعوبة التكيف مع المحسوسات، فالعالم حسي وروحي، والروح يتناسب معها خيال العقل، وهذا لعمري دليل على صدق الرسالات ومنطق الأديان القاضي بالاهتمام بالروح لكونه الجوهر، وأستشهد هنا بكلام ناتسومي سوسيكي في راويته "وسادة من عشب" حيث قال  " نعم ،أن بوسع قصيدة أو لوحة أن تطرد كل ضجر من هذا العالم حيث يصعب العيش فيه..... ولما كان العيش في هذا العالم الذي لا نستطيع مغادرته أمراً شاقاً، فإن علينا أن نجعله مريحاً ولو قليلاً، كي نقوى على احتمال حياتنا العابرة فيه، ولو لفترة قصيرة من الزمن، وهنا يتجلى نداءُ الشاعر وتظهر موهبة الفنان. فكل مبدعٍ هو عظيمُ القيمة، لأنه يخفف من قسوة عالم البشر ويثري قلوبهم".

 وهذا المعنى أشار إليه الروائي التركي أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل في الأدب 2006مـــ حين وصف الروايات بالحياة الثانية وتارة بالأحلام التي لا نرغب في الإنفكاك عنها، " تمامًا كما يحدث في الأحلام، عندما نقرأ الروايات نتأثر أحيانًا بقوة الطبيعة الخارقة للأشياء التي تصادفنا والتي تجعلنا ننسى أين نحن ونتصور أنفسنا في وسط الأحداث الخالية والشخصيات التي نشاهدها"  وبين أن عالم الرواية تارة يكون أصدق من  الواقع:" في مثل هذه اللحظات، نشعر بأن عالم الرواية الذي نلتقي ونستمتع به هو أكثر واقعية من الواقع نفسه.." 

  والسبب الثاني :   أن العيون التي تنجذب للراوية، واللوحة، والقصيدة، ينقصها تأملا في جمال الحياة ومحيطها، وهذا المعنى قرره أيضا ناتسومي سوسيكي " ..وعلى وجه الدقة لا حاجة إلى تقديم هذا العالم من خلال الفن، إذ يكفي أن تتأمله مباشرةً كي تعثر على قصيدةٍ حية، ونبع من غناء. لا حاجة إلى أن تخط أفكارك على الورق، فصوت البلور يرنّ أصلاً في القلب، ولا حاجة إلى أن تسكب ألوانك على قماش اللوحة، فأطياف العالم وألوانه الكثيرة تلمع أصلاً في عينك الباطنية".

ويمكننا إضافة سبب ثالث أن الإنسان بطبعه يحب المغامرة، والتوقع، والبحث عن المجهول، والرواية تتميز بقدرتها على إشباع الفضول الغريزي عند الإنسان، والقرأن ذكر نماذج كثيرة من هذا الفضول  في  تطلع الإنسان للمجهول، منها السؤال المبكر عن الروح، وسؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى، وسؤال إبراهيم عليه السلام  الله أن يريه كيف يحيى الموتى، ونحوها كثير، ولذا شبه فأمبرتو أيكو " قراءة الرواية بلعبة الشطرنج"، ويميل البعض عدم إدراج الروايات ضمن العلوم المعرفية، وإنما هي خليط من التدريب الذهني، والخيال، والمغامرة.

 والفرق بين الروايات والعلوم المباشرة بنظري ، كالفرق بين غذاء الجسم وتدريبه، فقراءة راوية أشبه بالذهاب إلى صالة الجيم لممارسة الرياضة، للحفاظ على رشاقة الجسم وبناء العضلات وتجنب الوزن الزائد، وهذا يختلف عن تزويد الجسم بالكمية الكافية من الغذاء حتى ينمو ويكبر، ولذا ينصح المتخصصون بمتوسط عام للمارسة الرياضة من نصف ساعة إلى ساعة يوميا، وهكذا تدريب العقل بالروايات والقصص والخيال العلمي.

 وفي نهاية التحليل هنا أشير إلى جملة من الأمور: 

أولا: حياتنا راوية، وكل واحد منا في عالمه روايات، وصراع الإنسان في معركة الحياة متنوع ومختلف، وتاريخ الأمم والشعوب، والعظماء والملوك، وعالم كبير من المبدعين والناجحين، ووقائع القدر في الرفعة والعزة، كل هذا يحتاج قراءة، وتدبر وتفكر، بمنطق الحقيقة قبل منطق الخيال.

ثانيا:  لسنا هنا بصدد التنفير من قراءة الروايات، فنحن نقرأها ونستمتع بها، لكنا هنا نشير  إلى كتاب عمره 14 قرنا مليء بالقصص والحكم، والصيغ البلاغية والجمالية، كتاب  الله تعالى، الذي ما شبع منه العلماء، ولا توقف عن النهل منه الحكماء، يتجدد بتجدد الحياة، ويضفي على نفوسنا يقينا، وعقولنا نورا، فمن الضروري تخصيص بعض الوقت لقراءته وتدبره.

ثالثا: الوسطية معيار في بناء العقول، والحفاظ على الموروث الحضاري، وقد كانت عندنا تجربة كبيرة في الشغف بكتب اليونان، كتب المنطق، وتم ترجمت هذه الكتب، ودخلت في تكوين جملة من علوم الشريعة، وبعد أن قضى علماءنا ردها من الزمن في فهمها وتنقيحها وترجمتها، تبينوا أن نسبة النفع منها محدود، ووصفوها بلحم جمل غث، فوق جبل وعر، لا سمين فينتقى، ولا سهل فيرتقى. نهاية إقدام العقول عقال                 وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا          وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا         سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا في رجال ودولة                فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها        رجال فزالوا والجبال جبال فالقصد والوسطية، معيار في حفظ العقول، وفهم الدين والدنيا.

رابعا: القاعدة العامة " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها" فالقراءة وسيلة لتغذية العقل ،وسبيل للسفر بالروح إلى عالم جميل، وطريق لصقل الروح، وتنمية التفكير والإدراك، فإن وجدت نفعا من هذا الفن، وانعكس على مستوى تفكيرك وثقافتك، فرتع فيه، فالناس يختلفون في مذاقهم في القراءة والتفكير، والتعاطي مع جمال الحياة الحسي والأدبي، فالبعض لا يفهم الحياة الا بعيون الأدباء، ولوحة الرسام، وقصيدة الشاعر كما أشار إلى هذا المعنى  الروائي ناتسومي سوسيكي.