ماذا يعني أن نفكّر؟

اختيار المحرر
قبل 7 أشهر I الأخبار I اختيار المحرر

المؤلف : جان باتيست برونيه

هل بوسع كتاب واحد أن يقول لنا فعلاً ماذا يعني أن نفكر؟

التفكيرُ فعلٌ يتراوح ما بين أبسط الأشياء في الواقع اليومي، وصولاً إلى أعقد الأسئلة العلمية والوجودية، ومن الصعب أن يحمل لنا كتاب واحدٌ الجواب الشافي بين دفتيه.

التفكير محاولة للفهم، وطريقة لتكوين المعرفة الفردية، لكنه أيضاً استخراج المفاهيم، وتجريدها، واستعيابها، وخلقها أحياناً.

إن التفكير يتدخل في أنشطة عديدة تكاد لا تملك قاسماً مشتركاً، أو لنقل إن القاسم المشترك الوحيد بينها هو الوجود: يكفي للشيء أن يوجد، لكي يكون موضوعاً للتفكير، أو لكي يفكر هو نفسه.

أجوبة الغريب

إن هذا هو ما يتطرق إليه الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جان باتيست برونيه في كتابه «ماذا يعني أن نفكر.. عرب ولاتينيون؟»، وهو يرسم خريطة ذهنية وجغرافية وتاريخية لما قد يعنيه أن نفكر. يقدم لنا صاحب مقعد الفلسفة العربية والإسلامية في جامعة السوربون بجرأة رصينة محاولة للإجابة، ترتكز على الأجوبة التي اقترحها مفكرون عظماء، كأرسطو وابن رشد وغيرهما، ممن كانت حياتهم تتمحور حول التفكير، وهي الأجوبة التي ربما كانت غير مقبولة في سياق تاريخي سابق، خصوصاً في أوروبا بداية الأمر، لكونها «أجوبة الغريب»، أو بالأحرى أجوبة الجار اللدود، ففُنِّدت وأُهْمِلَتْ، لكي تُهمل هذه التفنيدات نفسها فيما بعدُ مع تطور المناهج الفلسفية، وبهذا يكون تسليط الضوء مجدداً على كل ما قطعه العرب واللاتينيون في سبيل الفلسفة بمنزلة اكتشاف جديد بالنسبة إلينا.

رؤية الأشياء

تنتظم فصول كتاب «ماذا يعني أن نفكر.. عرب ولاتينيون؟» وكأنها تنساب في خيط، بدءاً من الفكر البدائي للطفل والحيوان، والذي «لا يملك في يومه الأول أي دافع مذهل»، لأنه رد فعل تلقائي تجاه ما تعكسه الحواس، وصولاً إلى البحث عن معاني هذه المحسوسات. وهو البحث الذي قد يغلب عليه الوهم، وقد يخرج بنتائج خاطئة، ثم تأتي القوة الفكرية لكي توصل الإنسان إلى لبِّ الأشياء المخزون داخل قشرتها. وفي كل هذه العمليات يبقى الفكر أبعد من أن يكون عملية عقلية لا مادية.

ينتبه الكاتب إلى ما تناساه التاريخ، ويحدثنا عن أن الفكر ليس مسألة رؤية الأشياء في وجود الضوء الذي يرينا سطوحها الخارجية، ولكنه ولوج إلى «الأعماق المشعة من تلقاء نفسها» في وجود الضوء الذي يرينا سطوحها الخارجية، ولكنه ولوج إلى «الأعماق المشعة من تلقاء نفسها». عادة ما نحسب التفكير ارتباطاً بالمفاهيم وبالكليات، لكنه قد يتواجد داخل هذا الرابط نفسه، الذي يصلنا بالصور والتخيلات التي يُستخرج منها كل جوهر.

الفكر العابر للأفراد

التفكير أيضاً غياب عن العالم، وإدراك للأشياء في حضرة غيابها، أو بالأحرى تغييب لها. يتحدث الكتاب لنا كذلك عن «بُعد الفكر العابر للأفراد»، وعن أطروحة ابن رشد بأن العقل واحد ومفارق وأزلي، والتي رفضتها أوروبا في العصور الوسطى، هو حديث يتتبع التقليد الفلسفي في الإشارة إلى العقل الهيولاني، والعقل المستفاد، والعقل الفعال، والعقل القدسي، وغيرها، ويحدثنا عن مقاربات للتفكير وجدت أصداءها في مختلف التيارات الفلسفية والكلامية والروحية، في العالم الإسلامي وخارجه. إنها رحلةٌ باهرة، مراحلها عديدةٌ، لكن الأسلوب يجعلها تتوالى بسلاسة، في رقصة لغوية وفكرية تنتهي دائماً بتقديم البدائل، وبطرح المزيد من الأسئلة.

بحر متوسط

إن هذا الكتاب هو الأحدث لصاحبه، ويأتي بعد كتاباتٍ ودراسات تتطرق إلى الفلسفة العربية الإسلامية وإلى قضاياها، وكيفية تقبلها في وسطها العربي، وفي الأوساط الأخرى. وباستعارة تعبير الكاتب، هذا الكتاب «بحرٌ متوسط»، يجمع جنوب أوروبا وغرب آسيا وشمال أفريقيا، بلغاتها وثقافاتها وأفكارها وأزمنتها، فنجدُ أفكار الإغريق وشرح الأندلسيين ومدارس اللاتينيين وأدب العرب وكلامهم وتصوفهم، مشرقاً ومغرباً. وهذا النهجُ في التأليف، وفي التذكير بالتقارب الثقافي، أحوج ما يكون له وقتنا هذا، حيث يجب من جديد أن نتعلم فن استضافة الجار لا بكونه غريباً، وإنما بكونه مؤثراً مباشراً وعنصراً فاعلاً في حيزنا الوجودي والفكري، تماماً كما أن لوجودنا التأثير نفسه بالنسبة إليه. ولعل هذا الحوار الإنساني الذي يؤرخ له هذا الكتاب، سوف يساعدنا على إدراك الحقيقة المرة، وربما تداركها، حيثُ إن هذا التبادل الحضاري الضروري ما فتئ لفترة غير بسيطة يتراجع، لحساب علو السور الذي شيدته كل حضارة حول نفسها.

* شاعر وكاتب مغربي * القبس