تكرر القول بأن التوحُّد أو التجزئة هما خياران سياسيان، محركهما الأساسي المصلحة العائدة على أنصارهما، وليست معتقدات أيديولوجية ثابتة.
وهنا يثور السؤال:إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كل هذا الجدل العقيم حول مسألة بديهية وواضحة؟! ينبغي التعاطي معها بمسؤولية وبمنطق الواقع والموضوعية، بعيدًا عن الشطحات العاطفية والخطاب الاستعراضي الذي لم يُؤَدِّ إلا إلى مزيد من الأزمات المميتة لليمنيين كافة شمالًا وجنوبًا ، فهذا العبث بدد سُبل إقامة دولة عادلة ومستقرة.
لطالما اعتدنا الهروب من مواجهة الاستحقاقات والتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكانت النتيجة المحتومة: لا دولة مُوَحَّدة، ولا دولتين مستقلتين قائمتين .
لقد فشلت الوحدة المفروضة بالقوة،والتجزئة المفروضة بالقوة لن تُفضي إلَّا إلى الفشل ذاته. ومن يظن أن السيطرة العسكرية وحدها كافية لفرض مسار سياسي، فليُراجِع حساباته؛ فمن لا يقرأ التاريخ، ويستوعب دروسه، سيدفع ثمن تكرار أخطاء وكوارث الأمس، بكل ما يرافق ذلك من سذاجة وطيش .
فالنخب في الشمال - إلَّا القلة القليلة- رَدَّةُ فِعْلِها كانت مُسْتَفِزَّةً ، ولا توحي بأَنْ لديها رؤية وطنية لمعالجة الأزمة السياسية أو أن نقدها وتبريرها نابع من أفكار واعية، بل على العكس كشفت عن اصطفاف عصبوي مخيف لا يزال في جوهره يتمسك بمنطق القوة الغاشمة، وبأدوات وخطاب ساخط ومنفلت وجهوي يعيد إلى الأذهان ما يفترض نسيانه.
وفي المقابل، نُخَبٌ جنوبية تبنَّت المنطق ذاته الذي عانت من تبعاته المأساوية منذ ثلاثة عقود ، فلقد صوروا ما حدث على أنه معركة ثأرية وخلاص من السلطة الشرعية ورمزيتها ووجودها، بل ومن الشمال كجغرافيا وتاريخ وثقافة وإنسان، غافلين أن التوحُّد في الأساس كان مع الفئة الخطأ ، وأن من يحاربونهم الآن هم شركاؤهم الذين يشاطرونهم بناء الدولة العادلة المنقلب عليها ممن يظنون أنهم أقرب مودة لهم .
يتحدثون عن سلطة شرعية هشَّة وضعيفة غير قادرة على تجسيد سلطانها في المحافظات المحررة. وبصحة هذا التوصيف، فإن هذه النخب تغافلت عن حقيقة جوهريَّة: ضَعفُ هذه السلطة وقوتُها هما نتاج موضوعي لغياب الدولة نفسها.
لقد وُلِدَت هذه السلطة من رحم عملية سياسية قيصرية مشوَّهة، وظهرت إلى الوجود بلا أسنان ولا مخالب تُمكِّنها حتى من الدفاع عن وجودها، فكيف بإثبات حضورها؟
كما أن هذه النخب نفسها تَغافَلَت عن كونها شريكًا فاعلًا في إفشال هذه السلطة، وفي تهميش وإقصاء من يُفْتَرَض أنهم حُلَفاؤها وأنصارها في معركة استعادة الدولة.
باختصار، يجب فهم الأزمة السياسية الراهنة على حقيقتها: إنها نتاج فشل سياسي مُرَكَّب، سببه منطق الهيمنة واستبعاد الآخر، وفقدان فكرة الدولة العادلة الجامعة.
وجيل الحاضر يجهل أن التوحُّد يوم 22 مايو 1990م لم يكن"جريمة" كما صُوِّر في الجنوب، بقدر ما كان رد فعل على ظروف إقليمية ودولية متغيِّرة، ناهيك عن ضغوط اقتصادية.
فضلاً عن أن هذه المتغيرات لم تخلق ظروفًا موضوعية فقط لوحدة اليمن، وإنما أيضًا وحدت شرق ألمانيا بغربه، وأَدَّتْ في مجملها إلى انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، كما استقلت دول الاتحاد السوفيتي، وكذلك تسببت في تفكُّك دول الاتحاد اليوغوسلافي.
والحقيقة التي لا مفر منها هي أن الوحدة بالشكل الذي تأسست عليه قد انتهت، ولا داعي للمزيد من الجدل العبثي حول هذه النقطة . عندما نقول "انتهت" فإننا نعني أنها أخفقت في تحقيق الآمال والتطلعات التي راودت اليمنيين جميعًا شمالًا وجنوبًا، ابتداءً من الإغتيالات السياسية في صنعاء عقب الوحدة ، ومن ثم اللجوء لخيار الحرب عام ١٩٩٤م .
وهنا يبرز السؤال المصيري: ما الخيارات المتاحة للحل السياسي الشامل في اليمن؟ هل يكمن الحل في استعادة الدولة الجنوبية بعد السيطرة شبه الكاملة على جُغْرَافِيَةِ الدولة السابقة أم في بناء دولة يمنية اتحادية جديدة؟
شخصيًا، أَعُدُّ مؤتمر الحوار الوطني قد رسم مسارًا واضحًا نحو الحل الوسط عبر تحويل اليمن إلى جمهورية اتحادية متعددة أو ثنائية الإقليم - المسألة مفتوحة الخيارات -، لكلٍ منها حكومة وبرلمان محلي، مع احتفاظ الحكومة الاتحادية بصلاحيات السيادة الرئيسية.
هذا النموذج - الذي رُفِضَ من قبل أطراف معينة وأُجهِضَ بسبب انقلاب الحوثيين وشريكهم الرئيس الأسبق صالح - لا يزال يمثل أهم إطار دستوري متفق عليه نسبيًا يمكن البناء عليه، كونه يسعى لتوزيع السلطة والثروة وتجاوز نموذج الدولة المركزية الفاشل.
وإذا اعتبرنا أن الحالة التي نعيشها هي نتاج غلبة لغة القوة، فهل يُعقل أن نُلغي عقولنا ونتجاهل دروس الماضي؟! نعم، يجب أن يَحْضُرَ العقلُ والمنطقُ السَّلِيمانِ الآن.
كما يجب أن تتحول القوة إلى ضامن لحوار جاد وخلاق، فكل مشكلة لها مائة حل. المهم أن نواجه الأزمة السياسية المركبة بعيدًا عن النزق والاتهامات الجاهزة والهروب إلى الأمام.
لذلك،فإن الخيار الواقعي والعملي الذي يتجنب مخاطر تَلْغِيمِ المستقبل بأزمات ومشكلات سياسية واقتصادية إضافية ، هو إحياء مشروع الدولة الاتحادية العادلة.
هذا المشروع ليس حلمًا نظريًا كما يظن السَّاخِطُونَ المُنَاهِضُونَ لمؤتمر الحوار ولمضامينه، بل كان أهم حل سياسي توافقي لليمنيين في لحظة تاريخية ، ولا يقلل من شأنه مقاطعة مكونات جنوبية مهمة ومؤثرة الان .
إنه يعترف بالتنوع والخصوصيات،ويوفر أطرًا للمشاركة والحكم الذاتي المحلي، ويبني الوحدة على أساس الاختيار الحر والمصلحة المشتركة، وليس على الإكراه أو الإنكار.
البعض أَجِدُهُ يطرح أحكامًا مسبقة، هذه النَّوْعِيَّةُ محبطة ومُيْئُوسٌ مِنْهَا، هي أكثر فئة اعْتَادَتِ الإفلات من أزمات الماضي والحاضر . اختلفت الوجوه وتعددت الأفكار، لكنها في المحصلة تتماثل من جهة كونها سببًا رئيسًا في إنتاج الأزمات والخصومات، وكذلك في تنصُّلها عن المسؤولية وإظهار ذاتها دائمًا كضحية وكمعارضة وسلطة في آن.
إن طريق الخلاص لا يمر عبر انتصار طرف على آخر، بل عبر انتقال وطني من ثقافة الهيمنة إلى ثقافة الشراكة، ومن منطق الغلبة العسكرية إلى منطق التعاقد السياسي.
المستقبل سيكون إما بدولة تعيد تعريف العيش المشترك ، أو لن يكون هناك مستقبل مستقر على الإطلاق. الذين يعتقدون أن المسألة بسيطة وعادية ولا تزيد عن استدعاء الأتباع إلى الساحات، إيذَانًا لإعلان فك الارتباط واستعادة الدولة بخطاب متلفز؛ هؤلاء تحركهم العاطفة ولا يلقون بالًا لحقيقة الوضعية المعقدة سياسيًا ووطنيًا واقتصاديًا وإقليميًا ودوليًا.
آن الأوان لتبني رؤية سفينة نوح يمنية جديدة،فلا بد من التفكير بحلول موضوعية وواقعية، تقوم على عقد اجتماعي وسياسي واقتصادي شامل ينقذ ما تبقى من كيان الوطن ويوفر الأمل لشعبه.
لستُ مع تظاهرات الساحات المسنودة رسميًا، فمثل هذه المظاهر سبق وأن خبرناها، فيكفي الإشارة هنا إلى أن العاصمة عدن ظل أهلها يحتفون بالوحدة ثلاثة أيام، والنساء والشيوخ خرجوا في صنعاء للبرع والزغاريد بسقوط عدن في العام الرابع.
وظل النظام السابق يحتفي سنويًا بانتصار الوحدة بالقوة والدم والقرابين .والآن المليشيات الحوثية تخرج الناس إلى السبعين احتفاءً بانقلابها المشؤوم على الدولة ومؤسساتها وثورتها وأحلامها في التغيير ، فهذه التظاهرات لا تبني دولة أو تقيم عدلًا أو تؤسس لاستقرار سياسي من أي نوع.
المهم هو أن نواجه الأزمة السياسية المركبة بعيدًا عن النزق والتخوين أو الهروب،فليس هناك أسوأ من التعاطي مع الحالة الراهنة بنفس الأدوات والأفكار التقليدية، ونفس العاطفة الجياشة التي أوصلتنا إلى توحُّدٍ مرتجل غير مدرك للعواقب، وإلى حربين كارثيتين، وإلى ثلاثة عقود من الأزمات المتلاحقة التي تُلقي بظلالها الثقيلة على حاضر البلد ومستقبله.
محمد علي محسن





