محمود الشرعبي
محمود الشرعبي

الاتفاق السعودي-الإيراني من منظور جيوسياسي

أجواء من التفاؤل والتشاؤم، ومن الحذر والامتعاض لدى البعض، سادت مؤخرا العالم إثر الإعلان عن نجاح وساطة صينية في التوصل الى اتفاق يعيد المياه الدبلوماسية الى مجاريها من جديد بين الفاعلين الإقليميين، المملكة العربية السعودية السنية وجمهورية إيران الإسلامية الشيعية، وهو أمر له تداعيات جيوسياسية قد لا يستهان بها على المنطقة خصوصاً، والعلاقات الدولية عموما. تمثل هذه الخطوة، التي يصفها البعض بالصفقة وآخرون بالصفعة، تحولًا لافتاً في ديناميكيات القوة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهي كفيلة، إن كتب لها الاستمرار، بإعادة تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في المنطقة والعالم. وهذا المقال عبارة عن مقاربة جيوبوليتيكة لهذا التطور وما سيترتب عليه من آثار.

الجيوبوليتيك، والتي يعرفها البعض بالجيوسياسية، مفهوم يتناول قضايا العلاقات الدولية وآثارها السياسية والاقتصادية وغيرها من واقع تأثير الجغرافيا. وفي موضوع الاتفاق السعودي- الصيني، برعاية الصين، سنجد أن الجغرافيا تلعب دورًا محورياً في تشكيل الديناميكيات الشرق أوسطية، فإيران والمملكة العربية السعودية قوتان مركزيتان في المنطقة، ولكل منها خصائصها الجيوسياسية المختلفة. تمتلك إيران نفوذا إقليمياً متراكماً استطاعت أن تعززه بأداتها الطائفية، فيما نظيرتها السعودية تمتع باحتياطيات نفطية هائلة ويربطها بالولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً وثيقاً. ولعقود، وهاتان القوتان في صراع يطفو أحيانا ويكمن أحيانا أخرى، وتغذيه التباينات الدينية والسياسية والأيديولوجية.

وفي هذا السياق، تأتي الوساطة الصينية لتضيف بعداً جديدًا لهذا الصراع، وهي التي سعت تدريجياً إلى توسيع رقعة نفوذها في منطقة تقليدياً تخضع لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الأوروبية، وذلك من خلال أدوات ناعمة عدة، أبرزها مبادرة الحزام والطريق – وهذه المبادرة عبارة عن مشروع بري يهدف إلى ربط الصين بأوروبا وأفريقيا عبر شبكة من الطرق السريعة والسكك الحديدية والموانئ البحرية، وهو مشروع له أيضاً تداعياته الجيوسياسية على المدى المتوسط والبعيد. 

ويكمن البعد الجديد للوساطة الصينية في دور بكين المتنامي كوسيط في المنطقة العربية وأفريقيا، وهو مؤشر واضح على رغبتها في التعامل مع القوى الإقليمية من منطلق المصالح المشتركة. وهذا على عكس الولايات المتحدة، التي لعبت دور الآمر الناهي هناك، وتدخلت بشكل مباشر وغير مباشر، وبشكل عنيف أيضاً، في شؤونها دون أي اعتبار لسيادة الدول وحقها في عدم التدخل الأجنبي. ويكمن المحرك الأساس للسياسة الخارجية الصينية في منطقة الشرق الأوسط، المعروفة باحتياطياتها العملاقة من النفط والغاز على مستوى العالم، في حاجتها إلى موارد الطاقة كونها أكبر مستورد للنفط الخام في العالم. على أن اهتمام الصين بالمنطقة يتجاوز بلا شك موارد الطاقة، فمشروع الحزام والطريق يقع في صلب استراتيجية السياسة الخارجية الصينية، والشرق الأوسط أحد شرايين هذه المبادرة. وتامل الصين من خلال الاستثمار في مشاريع البنية التحتية في المنطقة في توسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي وتعزيز مكانتها كقوة عالمية.

لنجاح الوساطة الصينية تداعيات جيوسياسية عدة، فالاتفاق سيخفف من حدة التنافس الممتد لعقود بين القوتين الإقليميتين وما نتج عنها من توترات، وربما يكون لذلك تداعيات إيجابية، على الأقل على المدى المنظور، على الاستقرار والأمن الإقليميين، لا سيما في اليمن التي تدور فيها حرباً بالوكالة بين إيران والسعودية، فمن جهة تكسب الرياض توقف استهدافها ومنشآتها النفطية بالمسيرات الإيرانية من اليمن، وفي المقابل تترسخ قدما حليف إيران الحوثي في اليمن لينكمش التوتر والصراع بين الفاعلين المحليين في اليمن، وجميعهم عبارة عن دمى تحركها القوى الإقليمية، مما يمد في أمد معاناة الشعب اليمني الذي يعاني من انعدام الخدمات وانقطاع المرتبات وتضعضع العملة وتردي الظروف المعيشية. 

من جهة أخرى، سيؤدي الاتفاق الى تراجع نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة بعد أن قضت عقودا طويلة صاحبة القول الفصل فيها، لا سيما منطقة الخليج منها، وما انسحابها الأخير من أفغانستان وتحولها نحو آسيا إلا مؤشر على ذلك، وها هي بوادر الفراغ الذي خلفته واشنطن تملأه بكين على نحو متزايد.

للأمر علاقة أيضا بتوازن القوى في المنطقة، فنجاح الصين في الحفاظ على مضمون الاتفاق وتنفيذه على الأرض سيمكن الصين من إعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة، لا سيما إن نجم عن ذلك توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الطرفين المعنيين، فضلاً عما لذلك من آثار على سوق الطاقة العالمي، حيث سيؤدي ذلك الى تعاون أكبر وامتن بين البلدين في قطاع الطاقة الأمر الذي قد ينعكس بشكل إيجابي على زيادة الإنتاج والصادرات وما لذلك من تأثير كبير على أسواق الطاقة العالمية.

ومع ذلك كله، تظل هناك عوامل تحد من تأثير التسوية الإيرانية-السعودية، فالتسوية ما تزال في مراحلها الأولى والجميع سيرى مدى نجاحها من خلال انكماش حدة التوترات وبناء علاقات اقتصادية وسياسية أوثق بين البلدين. الى جانب ذلك، يعتبر سوق الطاقة العالمي شديد التعقيد ويتأثر بمجموعة من العوامل منها العرض والطلب والنمو الاقتصادي، وبالتالي ليس شرطاً أن يحدث تغييرات كبيرة في سوق الطاقة العالمي، حتى وإن كتب للاتفاق النجاح والاستمرار.

أخيرًا، صحيح أن الاتفاق الإيراني-السعودي أحدث صدى واسعاً من شأنه إن نجح أن يؤثر بشكل واسع على التحالفات والاصطفافات الإقليمية، فالسعودية تقليدياً حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة، فيما إيران معروفة بإنحيازها إلى المعسكر الروسي. إلا ان ما جرى يزيد من تأثير الصين المتنامي أساساً في المنطقة، وهو ما قد يؤدي الى تحولات في هذه التحالفات يمكن الصين من لعب الدور الأبرز والأكبر بدلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية. لكن المؤشرات والشواهد تدفع باتجاه آخر، وتفيد بأن مكاسب ايران في المنطقة أكبر، وان الاتفاق ليس سوى بمثابة استراحة محارب لإيران، يؤمن للرياض بعض المصالح العابرة ويحفظ لطهران نفوذها ومصالحها الاستراتيجية. 

في الختام، فإن التسوية السعودية-الإيرانية لها تداعياتها الجيوسياسية داخل المنطقة وخارجها، ورعاية الصين لها مؤشر على دور الأخيرة المتنامي كلاعب مؤثر في منطقة الشرق الأوسط وعلى استعدادها الكبير للتعامل مع القوى الإقليمية على قاعدة المصالح المشتركة. والاتفاق في حال تم تنفيذه سيخفف من حدة التوترات بين إيران والسعودية لكنه سيقلص في الوقت نفسه من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وسيعيد تشكيل ميزان القوى، وسيكون له تداعيات على سوق الطاقة العالمية. غير أن نجاح الصفقة وتأثيرها الإيجابي على أمن واستقرار المنطقة يصطدم بمجموعة من الأسباب الموضوعية وبعوامل باتت تمثل مكتسبات وحقوق على الأرض يصعب التخلي عنها من طرف إيران كما في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، فضلاً عن نفوذها غير المباشر في كل من قطر وعمان والامارات وكذلك الكويت والبحرين.

* باحث في العلاقات الدولية