مقدمة: الخلاف في جوهره مؤسسي وليس شخصيًا:
لم يكن النزاع بين البنك المركزي ووزارة المالية خلافًا شخصيًا أو صراعًا على النفوذ؛ في حقيقته، هو خلاف حول مبدأ مؤسسي جوهري: استقلالية البنك المركزي وقدرته على أداء مهامه على وفق ما ينص عليه قانونه؛ إن اختزال الأمر في أنه مجرد تجاذب عابر بين مسؤولين هو تبسيط مخلّ؛ فما يحدث في العمق يكشف عن خلل بنيوي في إدارة موارد الدولة، وضع البنك المركزي وحيدًا في مواجهة أزمة تتجاوز طاقته بكثير.
استقلالية البنك المركزي بين القانون والواقع:
لطالما شدّد البنك المركزي، على مدار سنوات، أن استقلاليته شرطٌ أساسي لضبط الإيقاع النقدي والمالي في بلد يعيش واحدة من أعقد الأزمات الاقتصادية في تاريخه؛ فالقوانين اليمنية نفسها تقرّ صراحةً استقلالية البنك المركزي، وتنظّم علاقته بالحكومة ووزارة المالية؛ وتلزم الدولة بتوريد مواردها السيادية إلى البنك المركزي ليتولى إدارتها وتوزيعها على وفق أولويات الموازنة العامة؛ غير أن الواقع جاء معاكسًا تمامًا: دولة بلا موازنة لسنوات، وتسرب لحوالي 75%–80% من مواردها خارج سيطرة البنك المركزي، إذ إن معظم الإيرادات السيادية تسيطر عليها جهات متفرقة، وفي مقدمتها السلطات المحلية التي تتصرف بها كما تشاء دون رقابة مركزية.
يظهر الخلل بوضوح في الإيرادات الجمركية التي تُصرف مباشرة من المنافذ دون المرور بالبنك المركزي، ما أفقد الدولة القدرة على تحديد أولويات الإنفاق بين الرواتب والخدمات الحيوية كالمستشفيات ومراكز السرطان وغسيل الكلى، وتحولت هذه الموارد من أداة للتخطيط المالي إلى مبالغ مبعثرة بلا خطة أو رقابة، تربك السلطات النقدية وتحرم الدولة من إدارة فعالة لاحتياجاتها.
الأخطر من ذلك، أن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال يُودع في محلات الصرافة بدلًا من البنك المركزي وفروعه ومكاتبه، لتتحول الموارد العامة إلى وقود للمضاربة بالعملة، لتصبح عنصرًا ضاغطًا يزيد من اضطراب السوق النقدية وتوسع فجوة الثقة بالعملة؛ عند هذه النقطة يتضح أن الخلاف ليس خلافًا مهنيًا بسيطًا، بل يمس جوهر استقلالية البنك المركزي ودوره: يُستبعد من إدارة الموارد السيادية وتربك إدارته للسيولة، لكنه يُطالب في الوقت نفسه بتغطية الالتزامات الناشئة عن إنفاق الحكومة بما يتعدى إيراداتها.
نهج الحكومة الحالية وتهميش دور البنك المركزي:
المفارقة أن الحكومات السابقة – رغم قصورها في جوانب كثيرة – كانت تُدرك حساسية العلاقة مع البنك المركزي؛ كان أي خلاف معها يُدار ضمن إطار مهني يضمن التنسيق ويتيح التوصل إلى حلول وسط تحفظ قدرًا من التوازن، أما الحكومة الحالية فاتخذت مسارًا مغايرًا تمامًا؛ إذ تعاملت مع البنك المركزي كأنه ذراع تابع لها لا مؤسسة مستقلة ذات ولاية قانونية أصيلة على الموارد والسياسة النقدية؛ غاب التنسيق تمامًا، وتحولت المالية العامة إلى قرارات مشتّتة أحادية الجانب.
ليس من المبالغة القول إن هذه الأوضاع وضعت البنك المركزي أمام اختبار وجودي حقيقي؛ فعندما يُجرّد المصرف من استقلاليته ويُستبعد من دائرة صنع القرار المالي، يفقد قدرته على أداء وظيفته الأساسية في إدارة السياسة النقدية وحفظ الاستقرار الاقتصادي؛ ومن هنا تنبع خطورة هذا الخلاف: فهو ليس جدلًا حول تفاصيل فنية، بل صراع على بقاء البنك المركزي كسلطة نقدية مستقلة وفق القانون، أو تحوّله إلى مجرد خزينة فرعية خاضعة لوزارة المالية.
توقف النفط وتحذيرات البنك المركزي:
شهدت البلاد تطورًا مفصليًا فضح هشاشة الوضع المالي، تمثّل في التوقف المفاجئ لصادرات النفط – المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة – منذ أوائل نوفمبر 2022، وهو ما ترك فراغًا هائلًا في خزينة الدولة؛ في الظروف الطبيعية، كان يُفترض بالحكومة أن تواجه هذا النقص الحاد عبر إجراءات مالية عاجلة: كالبحث عن إيرادات بديلة، وترشيد الإنفاق، وحماية ما تبقى من موارد سيادية من التسرب والضياع؛ لكن ما حدث كان العكس تمامًا، إذ تُركت الموارد القليلة المتبقية لتتوزع بين أيدي السلطات المحلية، وتم التعامل معها في السوق عبر شركات الصرافة كما كان يحدث من قبل، فانزلقت من كونها موارد عامة كان ينبغي حمايتها، إلى مجرد أداة إضافية للمضاربة في السوق النقدية.
أمام هذا المنعطف الخطير، تقدم البنك المركزي مرارًا بتحذيرات ومقترحات إصلاحية إلى مجلس القيادة الرئاسي والحكومة، محذرًا من أن استمرار النهج القائم سيؤدي حتمًا إلى عجز الدولة عن تلبية أبسط الالتزامات المالية؛ لبّ هذه المقترحات كان استعادة السيطرة على الموارد السيادية وتصحيح الاختلالات في سياسات المالية العامة، ومن أبرز ما أوصى به:
1. تصحيح اختلالات منظومتي الجمارك والضرائب، باعتبارهما أكثر مصادر الإيرادات غير النفطية انتظامًا.
2. تحسين سعر الصرف الجمركي باعتماد معدل صرف واقعي يزيد الإيرادات ويحفّز تعبئة الموارد.
3. ترشيد الإنفاق العام وتوجيهه للأولويات الملحّة كدفع الرواتب وتمويل الخدمات الأساسية.
4. معالجة خلل قطاع الكهرباء عبر إنهاء الاعتماد على وقود الديزل المكلف والانتقال إلى المازوت المحلي الأرخص بثلاثة أضعاف تقريبًا.
إن طرح استخدام المازوت لم يكن تفصيلًا فنيًا بل رؤية عملية لخفض كلفة إنتاج الكهرباء والحد من الهدر؛ إذ لا يُستخدم إلا في محطات الكهرباء والصناعات الثقيلة، ما يقلل فرص تهريبه أو بيعه في السوق السوداء، خلافًا للديزل واسع الاستخدام، الذي فتح أبوابًا للفساد وتسريب الوقود المدعوم.
هذه المقترحات لو نُفذت منذ اللحظة الأولى للأزمة النفطية لكان الوضع أفضل بكثير مما هو عليه الآن؛ ومع ذلك، تكرر طرحها مرارًا، بل كانت من ضمن حزمة إصلاحات – وهي في الأصل استحقاقات تعود إلى عام 2022 – تقدمت بها الحكومة ووزارة المالية نفسها إلى مجلس القيادة في السادس من مايو الماضي، وقد أُقرت رسميًا وأُحيلت إلى الحكومة للتنفيذ، غير أن الأخيرة لم تفِ بالتزامها، رغم أنها اشتراطات صريحة من المانحين بوجوب تنفيذها مسبقًا قبل أي حديث عن دعم جديد. ولو طُبقت حتى بعد السادس من مايو، لكان المشهد المالي مختلفًا أو أقل اختناقًا؛ لكن تجاهلها جعل الأمور تنزلق نحو مرحلة أكثر خطورة. . إن استمرار التأخير في التنفيذ، في ظل الوضع الكارثي وعجز الدولة عن دفع المرتبات وتوفير الحد الأدنى من الخدمات، يثير الاستغراب ويضع أكثر من تساؤل مشروع.
إن البنك المركزي بمطالبته بتنفيذ الإصلاحات لم يكن يطلب امتيازات خاصة به، بل يسعى إلى حماية المال العام وضبط إيقاع المالية العامة؛ ومع ذلك، تجاهلت وزارة المالية التحذيرات، واستمرت في نهجها القائم على تفتيت الموارد وتوزيع الإنفاق عبر تعزيزات عشوائية بلا غطاء نقدي حقيقي في البنك المركزي.
استنزاف الاحتياطيات وأزمة السيولة الخانقة:
عندما تجاهلت الحكومة المقترحات الإصلاحية واستمرت في سياساتها، لم يعد أمام البنك المركزي سوى استخدام ما لديه من احتياطيات للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه؛ وخلال الفترة من أكتوبر 2022 إلى يونيو 2025، موّل البنك المركزي الإنفاق الحكومي بما يقارب 2.6 مليار دولار استُنزفت من جميع المصادر المتاحة؛ شملت هذه الأموال الوديعة السعودية المخصصة لدعم العملة، والأرصدة التي حُررت من بنك إنجلترا، وسحب جزء مما كان محتجزًا في بعض البنوك الإقليمية، تلاها استنفاد التسهيلات والاعتمادات المتوفرة في الداخل، وأرصدة البنوك التجارية لدى المركزي، والاحتياطيات الإلزامية (القانونية) لتلك البنوك، والضمانات النقدية للبنوك والشركات، وأرصدة أذون الخزانة؛ وبشكل آخر، لم يُترك باب إلا وطرقه المركزي، ولم يُترك حساب إلا واستُنزف لتغطية الإنفاق العام؛ كانت هذه معركة مالية غير متكافئة استنفد فيها البنك كل أدوات السياسة النقدية والاحتياطيات المتاحة لديه، ليصل في النهاية إلى الحد الأدنى من الاحتياطيات الحرجة التي لا يمكن المساس بها حفاظًا على رمق الاستقرار الأخير.
إلا أن المشكلة لم تتوقف عند حد استنزاف الاحتياطيات الخارجية، بل امتدت تداعياتها إلى عمق المنظومة المالية الداخلية؛ فمع استمرار وزارة المالية في إصدار أوامر صرف وتعزيزات مالية دون أي غطاء نقدي حقيقي، وصرف الإيرادات المحلية من المنافذ الجمركية، واختلال الدورة النقدية، وجدت البنوك المحلية نفسها في مواجهة أزمة سيولة خانقة؛ لم تعد تلك البنوك قادرة على تلبية التزاماتها الأساسية أو توفير السيولة لعملائها، فلجأت إلى كسر بعض ودائعها وسحب ما تستطيع من أموال نقدية لتغطية احتياجاتها الطارئة؛ كان هذا مؤشرًا خطيرًا على أن النظام المصرفي برمته بات يعاني من الاختناق المالي.
عند هذه المرحلة، وجد البنك المركزي نفسه أمام معضلة مزدوجة: فمن جهة، لا يستطيع التخلي عن التزاماته تجاه البنوك (لأن أي إخفاق في دعمها قد يعني انهيار الثقة والنظام المالي بالكامل)، ومن جهة أخرى لم يعد قادرًا على تلبية الالتزامات الأساسية للدولة – وعلى رأسها دفع رواتب الموظفين – إذ لم يتبق في يده فعليًا سوى مبالغ ضئيلة وشيكات معدودة بالكاد تكفي لتسيير الحد الأدنى من الأنشطة الحكومية الضرورية.
ورغم هذه الظروف البالغة الصعوبة، حاول البنك المركزي جاهدًا الحفاظ على توازن هش قدر الإمكان؛ فمن ناحية، أخذ يضخ السيولة بالحد الأدنى إلى البنوك التجارية لإنعاشها ومنع انهيارها الكامل، محاولًا إبقاء القطاع المصرفي على قيد الحياة؛ ومن ناحية أخرى، كانت الرواتب تمثّل تحديًا شبه مستحيل: لم يعد هناك أي غطاء مالي متاح يتيح ضخ المزيد من النقود لتسديد الرواتب، وأي لجوء إلى طباعة عملة جديدة دون غطاء سيؤدي حتمًا إلى كارثة في سعر الصرف وتضخم جامح يفقد معه الريال اليمني ما تبقى من قيمته.
لحظة الانكشاف، خزائن فارغة ومحاسبة شفافة:
عند هذه المرحلة الحرجة، بلغت الأزمة لحظة الحقيقة؛ إذ باتت خزائن البنك شبه فارغة، وحتى السيولة في السوق المحلية شحّت إلى حد يهدد بتوقف الدورة المالية اليومية؛ بدأت مظاهر ذلك تتجلّى في كل مكان: البنوك تعاني من نقص حاد في الكاش، وشركات الصرافة عاجزة عن تلبية طلبات الزبائن لأن الريال اليمني لم يعد متوفرًا بالقدر الكافي للتداول؛ إزاء هذا الوضع غير المسبوق، أصدر البنك المركزي تعميمًا إلى فروعه العاملة في المنافذ الجمركية بالسماح بتحصيل الإيرادات بالعملة الصعبة (الدولار أو الريال السعودي) بدلًا من الريال المحلي، لعدم توفر السيولة المحلية.
على ضوء هذا الانكشاف، تحول الخلاف بين البنك المركزي ووزارة المالية إلى سجال حول من تقع عليه مسؤولية الانهيار المالي الوشيك؛ فالبنك – الذي كان يُفترض أن يُشرك في رسم السياسات المالية بدل أن يكون الممول الوحيد لكل بند إنفاق – وجد نفسه وحيدًا تمامًا في مواجهة متطلبات دولة بأكملها، بينما الطرف الآخر يكتفي بإصدار أوامر صرف الأموال دون النظر إلى توفر التمويل أو عواقب ذلك.
ورغم هذا الموقف الحرج، حرص البنك المركزي على مكاشفة الجهات القضائية والرقابية بكل شفافية؛ فعندما اتصل النائب العام وعدد من المسؤولين بالمحافظ، كان رده واضحًا: تفضلوا وانزلوا بأنفسكم وافتحوا الخزائن، وإن وجدتم شيئًا فقولوا إننا متعنتون؛ كما دعا مجلس الإدارة إلى النزول والاطلاع المباشر، وكان موقف البنك المركزي صريحًا: لا أموال مخفية، ولا سيولة “مخبأة” في الأقبية؛ فالخزائن شبه خاوية على عروشها؛ ولا شك أن استنزاف الاحتياطيات لتمويل نفقات الحكومة، دون تغذية راجعة من الإيرادات، هو تجسيد حيّ لضرب استقلالية البنك المركزي في مقتل.
غياب الموازنة وتجاوز السقف القانوني للدين العام:
الموازنة هي الأداة التي تضبط إيقاع الموارد والنفقات، وتحدد أولويات الإنفاق ومصادر تمويل العجز، بما يمكّن الحكومة من التخطيط للمستقبل المالي؛ غير أن اليمن يفتقر منذ سنوات إلى موازنة عامة بمعناها الحقيقي؛ وما يوجد على أرض الواقع لا يعدو كونه اعتمادات مركزية مبعثرة تُستخدم لإدارة الإنفاق الجاري بصورة ارتجالية؛ هذه الحالة أفقدت الدولة البوصلة المالية: فلا أحد يستطيع أن يجزم بحجم الموارد بدقة أو بأوجه صرفها على وجه التحديد.
نتيجة لذلك، انكشفت هوّة هائلة بين الإيرادات والنفقات؛ فالإيرادات السنوية للدولة (من ضرائب وجمارك وغيرها) لا تتجاوز 750 مليار ريال، بينما الإنفاق الفعلي قفز إلى نحو 3 تريليونات ريال سنويًا؛ بمعنى آخر، هناك عجز يتجاوز 75% من حجم الإنفاق – وهي فجوة يستحيل على أي اقتصاد تحمّلها لفترة طويلة؛ ورغم ذلك، استمرت وزارة المالية في تسيير الأمور وكأن كل شيء طبيعي؛ والأسوأ أنها عمدت خلال العام الحالي إلى صرف التزامات ومتأخرات مالية متراكمة تعود لأعوام سابقة (2018–2021)، وهي أعوام شهدت تدفقًا طبيعيًا نسبيًا لإيرادات النفط والضرائب والجمارك؛ أما اليوم، في غياب معظم تلك الموارد، فإن الإصرار على دفع مستحقات الماضي لا يعني سوى أمر واحد: توسيع الفجوة الحالية وتعميق أزمة العجز التي نعيشها الآن.
لكن الأخطر من العجز ذاته هو ما تكشّف بشأن الدين العام المتراكم على وزارة المالية لصالح البنك المركزي؛ فالقانون والدستور حددا بدقة سقفًا صارمًا للعلاقة المالية بين الجهتين، إذ لا يجوز للبنك المركزي إقراض الحكومة بأكثر من 25% من متوسط إيراداتها السنوية لثلاث سنوات؛ وهذا يعني حدًا أقصى يقارب 500 مليار ريال يمكن للمركزي إقراضه لوزارة المالية عند الضرورة، وقد وُضع هذا السقف تحديدًا لضمان استقلالية البنك المركزي ومنع الحكومة من التمويل التضخمي المفتوح الذي يضر بالعملة والاستقرار الاقتصادي.
إلا أن ما حدث فعليًا خالف هذا القيد القانوني بشكل صارخ؛ فحتى منتصف 2025 بلغ إجمالي ما موّله البنك المركزي للحكومة نحو 8 تريليونات و200 مليار ريال – أي أكثر من 16 ضعف السقف القانوني المسموح به! هذا الرقم وحده كفيل بتصوير حجم الخلل: فالبنك المركزي لم يعد مؤسسة مستقلة تتحكم بالسياسة النقدية وفق القانون، بل تحوّل إلى خزينة طوارئ لتمويل الدولة بلا حدود ولا قيود؛ ونتيجة ذلك، تقوّضت استقلاليته المنصوص عليها قانونًا بشكل شبه تام، وأصبح البنك طرفًا مكرهًا على تمويل الإنفاق الحكومي دون ضوابط، في حين كان يُفترض أن يقتصر دوره على إدارة السياسة النقدية وحماية الاستقرار المالي.
ولا تقف التداعيات السلبية عند هذا الحد؛ فالعجز المهول والفوضى المالية أدّيا أيضًا إلى عزوف المانحين والداعمين الدوليين عن تقديم أي مساعدات جديدة دون شروط إصلاحية، ومنها إصلاح منظومة المالية العامة: بدءًا من إعادة الانتظام للموازنة العامة، وتوريد جميع الإيرادات إلى البنك المركزي، وإصلاح قطاعي الجمارك والكهرباء لضبط التسرب المالي؛ وهذه ليست شروطًا سياسية تعجيزية، بل متطلبات أساسية للإدارة السليمة لأي اقتصاد؛ ومع ذلك، لم تجد تلك المطالب آذانًا صاغية لدى الجهات المعنية، مما ترك البنك المركزي يواجه وحده مصير خزائن فارغة، وعجزًا مهولًا، والتزامات متراكمة يستحيل الوفاء بها في ظل الوضع الراهن.
إدارة الدعم الخارجي وتأجيج الخلاف المؤسسي:
مع بلوغ الأزمة المالية ذروتها أواخر 2022، قدّمت السعودية منحة مالية لتخفيف الاختناق وتوفير سيولة عاجلة للرواتب؛ غير أن إدارة هذه المنحة كشفت مجددًا عمق الخلل المؤسسي بين وزارة المالية والبنك المركزي، فقد طالب البنك بأن يُفوَّض بإدارة حساب المنحة، باعتباره الجهة المخوّلة فنيًا وقانونيًا لإدارة التدفقات الخارجية وضمان سرعة وفاعلية توزيعها، إلا أن الطلب رُفض وأُبقيت السيطرة بيد وزارة المالية.
أدى هذا الموقف إلى تأخير صرف الرواتب وزيادة معاناة المواطنين، وأظهر إصرار وزارة المالية على تقليص دور البنك المركزي حتى في وظائفه الفنية الطبيعية، مقابل تغليب اعتبارات السيطرة الإدارية؛ وهكذا تعطلت الحلول الفنية التي اقترحها المركزي، وتحوّلت المنحة من فرصة للتخفيف الفوري إلى عامل إضافي لتفاقم الأزمة.
هذا الخلاف لم يكن تفصيلًا إجرائيًا، بل تعبيرًا عن تغوّل وزارة المالية على صلاحيات البنك المركزي؛ فبينما يُفترض أن يتولى الأخير – وفق القانون والأعراف المالية – إدارة الموارد الخارجية ضمن إطار السياسة النقدية، استُبعد قسرًا، ليجد نفسه مضطرًا لاحقًا لتغطية التزامات تُقرّها المالية من موارد غير متوفرة أصلًا؛ وهو ما يؤكد أن جوهر النزاع لم يعد مجرد ضعف تنسيق، بل مسألة وجودية تمس استقلالية المصرف المركزي كركيزة للاستقرار المالي.
الخاتمة:
يتضح من مجمل المشهد أن الخلاف بين البنك المركزي ووزارة المالية لم يكن يومًا خلافًا إداريًا عابرًا، بل أزمة أعمق تمس مصير مؤسسة يُفترض أن تكون صمّام الأمان للاقتصاد الوطني؛ فقد جُرّد البنك من استقلاليته، وحُرم من إدارة موارده السيادية، واستُنزفت احتياطياته حتى الرمق الأخير، ليُترك وحيدًا في مواجهة التزامات دولة بأكملها، بينما واصلت وزارة المالية إنفاقها غير المنضبط متجاوزةً سقوف القانون والقواعد الأساسية للاستقرار المالي.
لقد كشف توقف صادرات النفط هشاشة المالية العامة، وزاد غياب الموازنة وتفاقم العجز والدين العام من حدة الأزمة، فيما أدت إدارة الدعم الخارجي بعشوائية إلى إضاعة فرص إنقاذ كانت متاحة؛ وعلى الرغم من ذلك، ظل البنك المركزي يحذر ويطرح حلولًا عملية: استعادة السيطرة على الموارد السيادية، إصلاح الجمارك والضرائب، اعتماد سعر صرف جمركي واقعي، ترشيد الإنفاق، وإصلاح قطاع الكهرباء لوقف النزيف؛ لو طُبقت هذه التوصيات في وقتها، لكان الوضع مختلفًا جذريًا.
وعليه، فإن التوصية الجوهرية اليوم ليست تقنية بل مؤسسية بامتياز: إعادة الاعتبار للبنك المركزي كسلطة نقدية مستقلة، وتكريس ولايته القانونية على جميع الموارد السيادية، مع جعل الموازنة العامة الأداة الوحيدة لتحديد أولويات الإنفاق؛ كما يقتضي الأمر التزامًا صارمًا بسقف الدين العام، وبناء الثقة بالمنظومة المالية عبر شفافية كاملة في إدارة الدعم الخارجي.
إن استمرار تهميش البنك المركزي يعني تقويض آخر أدوات الاستقرار في اقتصاد متشظٍ ومثقل بالأزمات؛ أما استعادة استقلاليته فهي الشرط الأول لأي إصلاح اقتصادي حقيقي، والأساس الذي تُبنى عليه بقية المعالجات؛ فبدون استقلالية المصرف المركزي ستظل السياسة النقدية رهينة الفوضى المالية، وسيبقى الاقتصاد اليمني معرضًا لانهيار شامل لا تجدي معه حلول ترقيعية.