صالح العزيزي الشاعري الثائر المنسي !! 

سأكتب اليوم عن شخصية ثائرة متفردة لم تنل حقها لا ماضيًا أو حاضرًا ، فقبل أيام قليلة كنت في حديث مع الدكتور ، الأديب والشاعر محمد مسعد العودي ، عن المناضل الكبير ' الشيخ علي صالح سالم الباقري الشاعري " الذي عادة ما أصفه ب " مانديلا اليمن ' .

 

ولكم سررت حين علمت من صديقي أنه سيكتب عنه ، وإنصافًا له ولتاريخ هذه العائلة المُشرِّف فإنني أرتأيت الكتابة عن شخصية فذَّة من ذات المكان والزمان ، ومازال الكثير يجهل سيرته الكفاحية الوطنية والقومية .

أعترف هنا أنني ما أن علمت بقصة الرجل وحادثة إغتياله في الولايات المتحدة الأمريكية من السفير والوزير والمثقف والإنسان صالح عبدالله مثنى الشاعري ، حتى وجدت ذاتي حزينًا ومنذهلًا . 

 

حزينًا من شدِّة تأثري بكرمه وسخائه ناحية وطنه ، ومنذهلًا من هول الجفاء والجحود الذي ناله ، فبرغم أنه بلغ من المكانة والشهرة ما لم يبلغها شخصًا قبله خلال حقبة الخمسينات ، ومع ذلك مازال مجهولًا لنا ولأجيال عدة ربما ، فلم يحظ بشرف معرفة ما دوّنه وظل مطمورًا في طي النسيان أو قولوا الإهمال ..

 

ولأنني مولعًا في الشخصيات التي لم تنل حظوة أو إهتمام رغم ما قدمته من أدوار أو بذلت في سبيله ؛ فأنني رغبت في كتابة ولو النزر اليسير عنه كثائر ومهاجر وناشط ومثقف من طراز فريد .

نعم أكتب عن " صالح مثنى طالب العزيزي الشاعري " من جيل المقاومة في الأربعينات والخمسينات برفقة قبائل بلاد الشاعري ، ومن لا يعرف بلاد الشاعري ورجالها فأجزم أنه يجهل تمامًا تاريخ الضالع ومقاومة ابنائها للظلم والاستعباد .

 

فمن هذه المنطقة الكائنة شرق مدينة الضالع أشتعلت جذوة المقاومة ضد الاستعمار وأعوانه مطلع الثلاثينات ، ودونما توقف خلال الأربعينات والخمسينات .

وفي مثل هذه الوضعية وبضغط ظروفها الموضوعية والذاتية هاجر عمَّنا صالح إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو في سني فتوته ويفاعته ، وهناك عاش مع تجمعات عربية قادمة من أرض الشام .

 

وبما أنه جايل هؤلاء المثقفين الذين اغلبهم من لبنان ، فلقد تأثَّر وأثَّر بهم ، إذ كان معظم المهاجرين العرب في أمريكا وأوروبا واقعين تحت تأثير حركة التنوير ، حاملين راية الخلاص من الاستعمار وحالمين بالوحدة العربية .

 

كيف لا يتأثر عمَّنا صالح في امريكا وهو يقف إلى جوار رائد التنوير الكاتب الألمعي جبران خليل جبران ؟ وكيف لا يتبدَّل حاله وتفكيره وقناعته والكثير من المهاجرين العرب كخلية نحل ، يجيبون الولايات المتحدة ، ويلهجون بشعارات وقناعات مناهضة للإمبريالية والرجعية ،ومؤيدة بقوة للتيارات الاشتراكية والقومية الناهضة وقتئذ .

 

كانت مدن أوروبا وامريكا مساحة للكثير من الأفكار التقدمية المتأثرة بثورة اكتوبر السوفياتية ، والمجد الذي حققته بهزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، فعلى مأساوية هذه الحرب كانت فاتحة لعهد جديد ، إذ سرعان ما أعقبها انهيار النظام الاستعماري العالمي .

 

الفتى القادم إلى أمريكا وهو لا يملك غير صدق وشهامة وإيثار أهله ، كانت لديه قدرة استيعاب هائلة لفهم وإدراك الحياة الجديدة ، وبخلفيته كمقاوم تطورت معارفه الفكرية بسرعة ، فقد وجد في ذلك ما يعبر فيه عن روحه الوطنية .

 

اصبح ناشطًا سياسيًا مرموقًا واشتراكيًا صلبًا ، وزاده المهجر صقلًا ونضجًا بتأثير من اقطاب حركة القوميين العرب على الطلاب اليمنيين في بيروت والقاهرة أو المهاجرين إلى الكويت انذاك .

 

وارتقت مكانته فأصبح نائبًا لرئيس الجالية العربية في اميركا ، ونائبًا لرئيس تحرير صحيفة " البيان 'الصادرة عنهم .

وفي الصحيفة سخَّر موهبته وتجلياته وقناعاته فصبَّ جام مداده في مهاجمة الاستعمار البريطاني ونظام الإمامة الملكي ، داعيًا إلى تحرير اليمن جنوبه وشماله .

 وأشهر ما كتبه كانت مقالاته التي رد بها على قصيدة الإمام احمد التي هاجم فيها الإشتراكية والزعيم جمال عبد الناصر .

وفي هذه المناخات اتسع نشاطه إلى قيادة حملات تبرع لدعم انتفاضة ٥٦-١٩٥٨م في الضالع ، والتي كانت تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات التي كان يجري تحويلها الى ريالات فرنسه -ماريا تريزا -وتوزع على رجال المقاومة في قعطبة ، بما تعادل الملايين من ريالات هذا الزمان ، ومثلها حملات تبرع لدعم ثورة الجزائر .

 

وعوضًا عن بروزه كشخصية سياسية في ذاك الزمن ، وعُرف في الوسط الاجتماعي بنشاطه وعلاقاته الإنسانية ؛ كان مبادرًا في البذل والمساعدة للكثير من المهاجرين إلى امريكا قبل وبعد دخولهم إليها .

 

صار مصلحًا اجتماعيًا لحل الخلافات بين أفراد الجاليات العربية واليمنية بالذات ، وكل ذلك النشاط السياسي والإجتماعي والخيري أدى في نهاية المطاف لأن يفقد حياته ثمنا لشهامته ونبله .

 

تعرض لجريمة إغتيال بشعة ، فقد عُثر عنه مقتولًا في ' أوبفلو " إحدى ضواحي ولاية ' اوهايو ' ، مغموراً بالثلج ، وثمانية من اضلاعه مكسّرة .

للأسف كان المتهم في عملية إغتياله تاجر من بني جلدته اليمن ، لا لشيء غير تضرره من حكم العم صالح الذي كان منصفًا لغريم التاجر .

 

نعم دفع حياته ثمنًا لموقفه الشهم والأصيل والعادل إلى جانب الشريك التجاري الضعيف ، إذ رفض محاولة الاستيلاء على نصيبه في المتجر ، وطرده إلى الشارع مستغلًا خصمه مكانته وعلاقاته ، فكان الجزاء اغتياله وبطريقه بشعة لاقت الاستنكار والاحتقار لمرتكبيها .

 

رحل العم صالح تاركًا أثرًا طيبًا في نفوس كل من عرفه أو جايله ، وهذه المكانة لم تأت مصادفة ، وإنما صنعها بنشاطه المتعدد السياسي الإنساني . 

لقد نال إحترام وتقدير الناس في الداخل والخارج ، وكان محل فخر أسرته وأهله وعشيرته وأبناء منطقته عمومًا ، فيكفي القول هنا أن شقيقه عبدالله أسمى نجله صالح عبدالله مثنى ، السفير والوزير الأسبق ، تيمنًا به واعتزازًا بذكراه الطيبة العطرة .

 

هذه سيرة وجيزة عن حياة العم صالح العزيزي الشاعري ، الرجل النبيل والثائر المخلص لوطنه اليمن . 

آملّا أن تكون فاتحة إنصاف له ، وللكثير ممَّن أعطوا ودونما يؤخذوا ، وهذا ديدن أي ثائر وطني غايته عظيمة ، على اعتبار أن النضال قيمة معنوية متجردة من المكاسب المادية الذاتية ، ولا أظن الرجل إلَّا من هذه الطليعة صاحبة السيرة المجيدة الملهمة .

 

فتبًا لشعب لا يفخر برجاله الشرفاء الأوفياء ، وسحقًا لشعب يرتقي فيه الوضيع والجاهل ، وتغفل فيه وتمحى أسماء وازنة بحجم هؤلاء العظماء .. رحمة الله تغشى العم صالح ، ويسكنه الفردوس الأعلى ..

 

محمد علي محسن