أقلام حرة
أقلام حرة

القضاء كما لا يجب أن يكون

كتب/د. رواء عبدالله مجاهد

توطئة : 

 

دائمًا أفكر في صحة ما نُقل عبر التاريخ من وقائع و أحداث ، و هل ما تم تدوينه و نقله يمثل الواقع الفعلي ؟ 

أما أنه تم فرضه من قبل القوى التي كان لها الغلبة و المسيطرة آنذاك . باختصار فإن عبارة أن التاريخ يكتبه المنتصر ، يكتبه الأقوى ليبقى - بصرف النظر عن مدى عدالته أو صوابيته - خاطرة تُلح على فكري باستمرار فالتاريخ و مع الأسف ليس دائما حكم عادل .. هذا ما يقوله الواقع ! 

و من هذا المنطلق فإنني أخشى ما أخشاه أن يدون المنتصر في هذه الفترة الحالكة التي يمر بها الوطن ما يريده و يتوافق مع توجهاته ، أن تفرض و تدون المليشيات ما تراه في ظل وجود الكم الهائل من المهللين و المباركين و المنتفعين و طبالين الزفة ، اخشى ما أخشاه أن ينقل عبر التاريخ أن الأمن مستقر و القانون مطبق و القضاء يؤدي مهامه بكفاءة و اقتدار !!! أخشى ما أخشاه أن تُزيف الحقائق ، و يستمر تغييب الوعي الجمعي . 

لذا .. ما سيتم تدوينه في هذا المقال وجهة نظر شخصية واقعية لحال القضاء اليمني خلال هذه الفترة الحرجة التي تمر بها بلادنا ، و ليكون ما سيتم تدوينه هنا غصن نابت معاكس لاتجاه الريح ، شاهد يقول غير ما تقوله القوى المسيطرة ، ضوء يختلف عن عتمة اضواءهم ، و تصفيق حاشيتهم المنتفعة .

 

هذا المقال مكون من أربعة أجزاء ، قابل للزيادة مستقبلاً ، للحديث عن وضع السلطة القضائية خلال هذه الفترة ، و ليكون ما يدون فيه و بقية مقالاتي السابقة يُكتب للتاريخ القضائي . 

 

1 *- الواقع الواقع* ! 

 

لطالما تحدثُ مرارًا و تكرارًا عن وضعية القضاء اليمني المنتهك حتى مَلّ الحرف مني ، و تسربت الكلمات باحثة عن وضع جديد منزه ، و على أقل تقدير وضع يحفظ الحد الأدنى من الحقوق و الحريات سواء كانت للمواطن أو لمنتسبي السلطة القضائية ، و لكن.. لا أمل يلوح في الأفق! 

 

سيطرت الجماعات السياسية المهيمنة في الشمال و الجنوب على مفاصل القضاء ، منهم من سيّد حكمه بالحديد والنار ، و منهم من منح استقلالية قضائية ديكورية للاستهلاك الإعلامي. و ما أؤكد عليه في هذا المقام ، بل و أؤكد عليه دائما أنني عندما أتحدث عن الاستقلال القضائي المنتهك ، فلا يقصد به مطلقا الاستقلال الذاتي للقاضي ( الفردي ) ، إذ يوجد الكثير و الكثير من القضاة المستقلين الأكفاء الذين لم ينجروا وراء هوة اللا استقلالية السحيقة و لم يغريهم لمعان التبعية السياسية ، إنما حديثي ينصب عن انعدام الاستقلال القضائي المؤسسي ( في المؤسسة القضائية) . 

 

و طالما و أن المؤسسة القضائية تسبح بحمد الجماعات السياسية ، لذلك صارت المنهجية القضائية السائدة تخدم مصلحة أربابها ، و تدمر كل بناء تم تشييده ، و تقتلع كل اخضرار يمكن الاتكاء عليه .. فهكذا هو نهج المليشيات التي عكسته القيادات القضائية على المؤسسة القضائية . 

 

تنافست القيادات القضائية هنا وهناك للإجتماع و اللقاء بالأطراف السياسية المسيطرة لإعلان الولاء لهم ، و البراء من كل أبجديات نصوص القانون و الدستور ، باحثين عن ترسيخ لمناصبهم ، متناسين معنى القضاء المستقل ، و وجوبية بُعده و تبعيته عن التجيير السياسي. 

 

تم العبث و بشكل فج بمدخلات المعهد العالي للقضاء و الذي يشكل بذرة القضاء التي إذا صلحت صلح القضاء ، و إذا فسدت هدمت المعبد على رؤوس منتسبي السلطة القضائية و المواطن . فأنتهج منهج سلالي اقصائي للقبول شمالاً ، وصل لإقصاء كثير من المستحقين فضلا عن عدم قبول النساء في المعهد بناء على اعذار واهية ، هادمين كل المبادئ القانونية و الدستورية التي تقرر ، حقوق المواطنة المتساوية و حقوق المرأة ، لتأتي لاحقاً أصوات حاشيتهم الناعقة لتقول بأنه لم يتم إقصاء أحد و من تم استبعادهم لم يستوفوا الشروط المطلوبة حتى انه لم يتم قبول ابن رئيس المحكمة العليا ، و ابن المحامي العام الأول و بالنسبة للنساء فليس الغرض من عدم قبولهم هو الإقصاء و إنما هناك اكتفاء بعدد النساء اللواتي يعملن في الميدان حالياً ! . 

 

و الواقع ان ابن رئيس المحكمة العليا و ابن المحامي العام الأول سبب استبعادهم الحقيقي أنهم لا ينتسبون لآل بيتهم ، و إلا كان حالهم حال ابن رئيس مجلس القضاء الأعلى هناك و غيره من القيادات القضائية المنتسبون لذات السلالة و الذين تم الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي صادر عن المحكمة الإدارية في أمانة العاصمة بعدم استحقاقهم القبول في المعهد العالي للقضاء لمخالفة الشروط القانونية ، أما عدم قبول النساء فراجع لايدلوجيتهم الأزلية المبنية على العداء للنساء . 

 

 أما جنوباً فانتهج منهج مناطقي عنصري نفعي وصل لحرمان عدد من أبناء محافظتي سقطرى و المهرة المغلوبين و التي خفضت نسبة القبول إلى جيد بدلا عن جيد جداً بناء على قرار مجلس القضاء الأعلى لاستيعابهم، و الذين مالبثوا إلا أن يصطدموا بصخرة الواقع و يكتشفوا أن تخفيض نسبة القبول لم يكن لمصلحتهم كما تم الادعاء ، إنما كان لمصلحة محافظات أخرى معينة و أشخاص آخرين ! هذا فضلا عن الامتناع عن قبول الكثير من ابناء شمال الوطن ، و وصل المنهج المناطقي العنصري إلى الامتناع عن تنفيذ احكام قضائية صادرة عن المحكمة الادارية في عدن تقضي بقبولهم ! 

 

مُنحت المناصب في الغالب الأعم لغير مستحقيها ، و كانت المعايير الأساسية لمنحها الميل السياسي و الولاء و الواسطة ، و تراجعت كل المعايير الموضوعية من كفاءة و خبرة و نزاهة في منحها . 

 

تم العبث بموازنة السلطة القضائية و لا نعلم أين تذهب ؟ 

الموازنة التي كانت تغطي 22 محافظة بشمالها و جنوبها و شرقها و غربها لم تعد تكفي بعضًا منها !! و حرم منتسبي السلطة القضائية من أبسط حقوقهم . 

 

أُتخذ من المحاكمات السياسية أساس لتنمية رأس المال السياسي لاسيادهم ، و لكسب نقاط أمام المجتمع الدولي ، و لم تكن تلك المحاكمات التي تمت تنشد عدالة أو تحقق الاقتصاص العادل ، بل و لم يتم تنفيذ أحكامها. 

 

مُنحت الدرجات القضائية بالمخالفة للقانون ، كما منحت وظائف بعدد مهول لم يُراعى في منحها مطلقاً مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في تولي الوظيفة العامة ، و كان الأساس لمنحها هو القُربة و شراء الولاءات . 

 

كل السلبيات السابقة و غيرها تحدث عنها و بشكل تفصيلي في مقالاتي السابقة أو تصريحاتي عبر المواقع الإخبارية او في المكالمات الهاتفية و اللقاءات التلفزيونية . فما يحدث شمالاً يحدث جنوباً ، و ما يتم العبث به هناك يتم العبث به هنا و إن تعددت الأسباب و الوسائل ، و لكن النتيجة واحدة و هي القضاء على القضاء . 

 

في مواجهة كل ما تقدم يسود في الوسط القضائي الصمت ، في الشمال لا اعتراض ، لا مناهضة ، لا ، لا ، لا ، فلا يوجد حراك قضائي فعلي ، حتى لو ظهر صوت فردي يتم قمعه أو تهميشه ، 

بل يصل الأمر إلى اقتحام بيته و ترويع أسرته و اقتياده إلى جهة مجهولة من ثم تلفيق التهم الباطلة إليه ، و لا حول ولا قوة إلا بالله. 

 

أما في الجنوب فيسود الصمت أيضاً عن جميع الاخفاقات خلا أن مجلس القضاء خالف سياسة القمعية المنتهجة شمالاً ، و أتبع منهج متفرد قائم على إسكات الأصوات المعارضة بالمناصب و المكافاءت ، فانشئت لجان و استحدثت دوائر جديدة و يتم تعيين هذه الأصوات فيها ليتمتعوا بالمكافاءات و النتريات و السفرات الخارجية ، حتى أن البعض مع الاسف يسلك مسلك ابتزازي للمجلس سواء من القضاة أو الإداريين ، فنجده فجأة خارجاً شاهراً سيفه مدافعاً عن الحقوق مطالباً بتطبيق القانون ، لكنه لا يلبث إلا أن يغمد سيفه بعد أن تتم مراضاته بشكل أو بآخر من المجلس ، الأمر الذي دفع بالبعض أن يستمرأ عملية الابتزاز بعد أن أدرك سر التعويذة . 

ضف إلى ذلك أن المجلس عمل على استحداث ظاهرة جديدة و هي تحويل أعضاء النيابة إلى قضاة حكم ، و هذا يرجع إلى سيطرة أعضاء النيابة على قيادة السلطة القضائية ، هادفين من ذلك أمرين : 

 

 الأول :السيطرة على القضاء ( الحكم ) ، حيث أن سيطرتهم و هيمنتهم شبه الكاملة على النيابة ، و يريدون تجيير قضاء الحكم لاتجاههم ، لا سيما بعد رحيل القاضي فهيم عبدالله محسن رحمه الله ، و الذي كان وجوده يشكل رمانة الميزان في حفظ قضاء الحكم لكينونته و خواصه المتفردة عن النيابة العامة ، و الذي تضافرت جهود الكثير من القيادات القضائية لاقصاءه ، بل و امتنعت حتى عن حضور جنازته !!!!!!، بالرغم من تواجد الجميع في عدن آنداك ، و لم يحضرها إلا رئيس مجلس القضاء و رئيس المحكمة العليا . 

الثاني : وجود عقدة النقص لدى ( البعض ) من أعضاء النيابة بأنهم ليسوا قضاة ، و الدخول في الجدل البيزنطي الذي يدور دائماً حول هذا الموضوع ، و الذي لا أفضّل إطلاقاً الاشتراك به . 

 

ماذا أستجد ؟؟ 

في ظل ركود الحراك القضائي الفعّال شمالاً ، و نكوص القضاة جنوباً ، ظهرت نقابة الإداريين في الجنوب و أعلنت ابتداء الاضراب الشامل باحثة عن الحقوق الضائعة و المنهوبة . 

 

و للحديث أكيد بقية .. 

 

القاضي .د/ رواء عبدالله مجاهد