كتب/وحيد الفودعي
منذ أواخر يوليو، حين لامس سعر الصرف عتبة ~2900 ريال/دولار، بدأ طورٌ انكماشيّ حادّ بفعل حزمةٍ من الإجراءات الرقابية والاحترازية التي استهدفت سوق الصرف وسلاسل تمويل الاستيراد؛ هذه الصدمة التنظيمية ــ مع تعطّلٍ ملحوظٍ في تدفّق الرواتب الحكومية لأكثر من أربعة أشهر ــ أعادت تشكيل منحنى الطلب على النقد الأجنبي عبر قناةٍ غير تقليدية: شحّ السيولة بالعملة المحلية؛ وبقدر ما بدت النتيجة للوهلة الأولى “صحيّة” (هبوطٌ سريع إلى حدود 1620 ثم إلى قرابة الألف في يومين بفعل مضاربة عكسية)، فإن البنية العميقة للحركة لم تكن تحسّناً في أساسيات ميزان المدفوعات بقدر ما كانت انكماشاً قسرياً في القدرة على تمويل الطلب بالريال اليمني، مع ما يرافق ذلك من تشوهاتٍ سعرية و”تقنينٍ” غير مُعلن للتعاملات.
تشير البيانات التي استحضرتها: قرابة 3 تريليونات ريال خارج الجهاز المصرفي؛ هذا يعني أن كتلة كبيرة من النقد صالحة للتداول لكن خارج قنوات السحب/الإيداع المعتادة، ومجمّدة في جيوب قطاعٍ خاص أو مواطنين؛ الكتلة النقدية الاسمية موجودة، بينما سيولة التداول الفعلي في البنوك والصرافين شحيحة؛ وعندما يُضاف إلى ذلك تثبيتٌ إداريّ لسعرٍ مرجعيّ عند ~1617–1620 ريال/دولار، يظهر أثر العُسر: كثير من المواطنين يريدون تصريف دولاراتٍ لحاجات معيشية، لكن البنوك والصرافين يترددون في الشراء (لغياب الريال المتاح أو لخشية المخاطر التشغيلية)، وقد يبيع بعضهم دون السعر المرجعي لتغطية نفقاتٍ عاجلة بالريال؛ في المقابل لا يجد الأفراد مشترياً عند السعر المُعلن؛ هذه ليست سوقاً تعمل بحرّية؛ إنّها سوقٌ تُرشدها إدارةٌ سعريةٌ مع رَشْد سيولةٍ مُقيَّد، فتنتج فجوةٌ بين “سعر مرجعي” وواقع التنفيذ.
آليّة الانتقال: لماذا قد ينخفض الدولار حين يشحّ الريال؟
اقتصادياً، انخفاض الدولار هنا لا يعني “قوة” حقيقية للريال، بل يُشير إلى سحقٍ للطلب المُمَوَّل: المستورد والتاجر والمستهلك لا يستطيعون تجميع ريالٍ كافٍ للشراء، فينكمش الطلب على الدولار قسراً؛ في فترات الاضطراب، يُفضّل بعض حاملي الدولار البيع بسعرٍ أقل للحصول على ريالٍ سريعٍ لتسوية أجورٍ وفواتير؛ هذا يُسهم في “ضغطٍ هبوطي” إضافي؛ لكن ما إن يُضَخّ الريال تدريجياً (رواتب، تخفيف سقوف السحب، نقل نقد بين المحافظات) حتى يعود الطلب المكبوت على الدولار للظهور، فإمّا يتلاشى التحسّن، وإمّا يدخل السعر في تذبذبٍ حاد إذا ظلّت قنوات التسوية ضحلة.
من هذه الزاوية، الهبوط السريع بعد يوليو ثم التثبيت حول 1620 يبدو مزيجاً من: (1) إزالة “الفقاعة” المضاربية، و(2) انكماشٍ قسري للطلب بالريال اليمني، و(3) إدارةٍ سعرية تستهدف تثبيت نقطة مرجعية “آمنة” تُجنّب السوق هبوطاً مفرطاً ثم ارتداداً أشدّ (undershooting/overshooting). وعندما بدا السوق “يرغب” بسعرٍ أدنى من 1617، فإنّ المركزي يعتبر أي نزولٍ دونها فخّاً انكماشياً هشّ الأساس: لا يمكن صيانته مع أول انفراجةٍ في السيولة، فيتحوّل إلى قاعٍ مُضلّل يعقبه ارتدادٌ عنيف.
عن فرضيّة “سحب السيولة بفعل فاعل”
هل يمكن منطقياً أن يكون هناك انتزاعٌ متعمّد للريال من السوق (من طرفٍ داخلي/خارجي) لإحداث انكماشٍ مفاجئ؟ نظرياً، يمكن لِلاعبٍ كبير أن يُغيّر حالة السيولة قصيرة الأجل عبر تجفيف قنواتٍ محدّدة (تحويل الكتلة إلى مخازن خاصة، إبطاء إعادة الإيداع إلخ). لكن هذه الفرضية تتطلب مقاييس قابلة للرصد: تحوّلاتٍ استثنائية في أحجام السحوبات/الإيداعات، تغيّر أنماط نقل النقد بين المحافظات، فجواتٍ غير معتادة بين أسعار “الكاش” و”الدفتر”، وتزامنها مع أحداث سياسية/أمنية؛ حتى تتوافر أدلةٌ كمية دامغة، تبقى الفرضية ممكنة لا مُثبتة؛ وفي جميع الأحوال، النتيجة العملية واحدة: السوق الآن يتصرف وكأنّ هناك “short squeeze” على الريال، سواء كان مصدره سلوكاً احترازياً، تأخر مدفوعات عامة، أو فعلاً مُنظماً.
التثبيت الإداري عند ~1617–1620: جدواه وحدوده
اختيار المركزي لمستوىٍ مرجعيّ على مقربة 1620 له منطقٌ وقائي: منع هبوطٍ “خادعٍ” يُربك التسعير الحقيقي ويُغري بتموضعاتٍ مضاربية سرعان ما تنقلب؛ غير أنّ تثبيت السعر فوق ما يشير إليه ضغط السيولة (أي حين يرغب السوق بسعرٍ أدنى) يُنتج ثلاث ظواهر:
1. ترشيدٌ قسري: البنوك والصرافون يخففون الشراء من الأفراد، لأنّ تحويل الدولارات إلى ريالات عند هذا السعر لا يمكن تمويله بسهولة.
2. بيعٌ دون السعر المرجعي لدى بعض الفاعلين لتغطية كُلف تشغيلية عاجلة، ما يُقوّض إشارات السعر المُعلن.
3. إحساسٌ باللاعدالة لدى حاملي الدولار لأغراض معيشية: لا يجدون مشترياً بالسعر الرسمي، مع أنّ هذا السعر مُلزِم نظرياً.
إذن، التثبيت يمنع “الفقاعات العكسية”، لكنه إذا لم يُرفق بإدارة سيولة ذكية وقنوات تصريفٍ شفافة، يتحوّل إلى تقنينٍ يُربك الثقة ويُولّد سوقاً ظلّية صامتة.
هل انخفاض الدولار هنا “صحي”؟
بالمعنى الاقتصادي الصرف: لا؛ انخفاض الدولار الناتج عن ندرة الريال هو تحسّنٌ اسميّ مؤقّت لا يعكس زيادةً في المعروض من النقد الأجنبي ولا تحسّناً في الإنتاجية أو في الحساب الجاري. إنّه يُحسّن “الرقم” لا “القدرة الشرائية الحقيقية”، ويخنق الائتمان ويؤجل الطلب، ثم يطلق موجةً ارتدادية عند أول تحسّنٍ في السيولة.
ربطٌ بالإجراءات الأخيرة
الإجراءات الرقابية والاحترازية (تشديد الإشراف على الصرافة، تنظيم تمويل الاستيراد، نقل مراكز البنوك، ضبط السقوف…) نجحت في تفكيك فقاعة يوليو وخفّضت حِدّة المضاربات. لكنّها، بتزامنها مع تعثر الرواتب وتباطؤ الدوران النقدي، خلقت بيئة انكماشية تقلّصت فيها السيولة الفاعلة وتراجع عمق السوق وتآكلت الثقة في آليات التنفيذ وتوزيع فرص الوصول العادل للعملة.
ما الذي يعنيه هذا لصانع القرار الآن؟
1. إسناد التثبيت بإدارة سيولة دقيقة: إبقاء المستوى المرجعي قريب 1617–1620 ممكن، لكن بشرط خلق قابلية تنفيذ عبر نوافذ شراء/بيع مدروسة:
- فتح نوافذ تصريف للأفراد بكمياتٍ يومية/أسبوعية محدّدة، تُدار عبر قنوات مصرفية مرخّصة وبأسعار ضمن نطاقٍ مستهدف (band) لا نقطة صلبة؛ هذا يُقلّل “تقنين” التعامل ويعيد الثقة.
- إطلاق مزادات دورية صغيرة بالريال لتغذية البنوك المؤهلة بضوابط امتثال، مقابل التزامها بشراء عملة الأفراد ضمن النطاق.
2. استئنافٌ تدريجيّ ومنضبط للرواتب: الدفع المتدرّج مع خريطةٍ مُعلنة لتواريخ الصرف يخفّض “قفزات الطلب المكبوت”، ويمنح السوق وقتاً لامتصاص الأثر دون انفجارٍ معاكس.
3. جسرُ تسويةٍ بين المناطق: أي تحسينٍ في انتقال الكتلة الورقية بين المحافظات (مع التأمين والفرز والاستبدال) يضاعف سرعة دوران الريال ويقلّص فجوات الكاش/الدفتر.
4. شفافية بيانات السيولة: نشر مؤشراتٍ أسبوعية عن التزويد النقدي، قوائم تمويل الاستيراد المنفّذة، وفروق الأسعار بين قنوات الكاش والتحويل؛ الشفافية تُطفئ الشائعات وتثبّت التوقعات.
5. رصدٌ ذكيّ لاحتمالات “الفعل المنظّم”: تتبّع تحركاتٍ غير اعتيادية في السحوبات/الإيداعات، وتقاطعاتها مع أحداثٍ أمنية/سياسية، يُحوّل فرضية “السحب بفعل فاعل” من خطابٍ ظنيّ إلى تحليلٍ قياسيّ يدعم القرار.
نخلص من ذلك؛ أن ما نشهده هو انتقالٌ من فقاعة مضاربية انتهت إداريّاً في نهاية يوليو، إلى انكماش طلبٍ ممولٍ بفعل ندرة السيولة بالريال؛ التثبيت عند ~1617–1620 يحمي السوق من هبوطٍ خادعٍ وارتدادٍ أعنف، لكنه يحتاج دعائم تنفيذ تعيد قابلية التحويل للمواطن العادي وتمنع تحوّل السياسة إلى “تقنينٍ غير مُعلن”؛ أما فرضية “تبخّر السيولة بفعل فاعل” فممكنةٌ منطقياً، لكنها لا تُغني عن المعالجة العملية: رفع سرعة دوران الريال، توفير نوافذ تصريف عادلة ومنضبطة، وتسيير رواتبٍ تدريجيةٍ بخرائط واضحة. عندها فقط يصبح السعر المُعلن سعراً قابلاً للحياة لا رقماً على الورق؛ ويصبح انخفاض الدولار ــ إن حصل ــ انعكاساً لتحسّنٍ حقيقي في توازنات السوق، لا أثراً جانبياً لندرةٍ مصطنعةٍ في النقد المحلي.